تظل قضية قبرص المنقسمة واحدة من أعقد النزاعات العالقة على الساحة الدولية، ومسألة محورية في سياسات شرق المتوسط. فمنذ عام 1974، تعيش الجزيرة واقع الانقسام بين الجمهورية القبرصية (اليونانية) المعترف بها دوليًا في الجنوب، وجمهورية شمال قبرص التركية المعلنة من جانب واحد في الشمال، والمعترف بها فقط من تركيا. وبعد عقود من المفاوضات المتعثرة، يطرح السؤال: هل يقترب الحل التاريخي للقضية القبرصية أخيرًا؟
جذور الانقسام وتحديات المفاوضات
تعود جذور القضية إلى عام 1974، عندما قامت تركيا بغزو الجزء الشمالي من الجزيرة ردًا على انقلاب عسكري مدعوم من اليونان هدف إلى توحيد قبرص مع اليونان. ومنذ ذلك الحين، تفصل "الخط الأخضر" أو المنطقة العازلة التي تشرف عليها الأمم المتحدة، شطري الجزيرة.
على مر السنين، شهدت القضية القبرصية جولات عديدة من المفاوضات برعاية الأمم المتحدة، تركزت في معظمها على نموذج الاتحاد الفيدرالي ثنائي المنطقتين وثنائي الطائفتين. ومع ذلك، اصطدمت هذه المحاولات مرارًا بحواجز رئيسية، أبرزها:
- تباين الرؤى حول شكل الحل: يصر القبارصة اليونانيون على إعادة توحيد الجزيرة تحت مظلة دولة فيدرالية ذات سيادة واحدة ومواطنة واحدة وشخصية دولية واحدة، مع انسحاب القوات التركية وإنهاء الضمانات التركية.
- حل الدولتين: في المقابل، يصر الجانب التركي والقبارصة الأتراك بشكل متزايد على حل قائم على دولتين متساويتين في السيادة، معتبرين أن نموذج الفيدرالية قد فشل بعد عقود من المفاوضات غير المثمرة.
- قضايا الملكية والأمن: لا تزال قضايا مثل عودة اللاجئين، تعويضات الممتلكات، والترتيبات الأمنية المستقبلية، نقاط خلاف رئيسية.
جهود حديثة لإحياء المحادثات
على الرغم من الجمود الذي استمر منذ انهيار محادثات كران مونتانا في سويسرا عام 2017، فقد شهدت الفترة الأخيرة بعض التطورات، وإن كانت محدودة:
- المبعوثة الأممية الجديدة: عين الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مبعوثة شخصية جديدة لقبرص، ماريا أنجيلا هولغوين، بهدف إحياء محادثات السلام. وقد ركزت هولغوين جهودها الأولية على بناء الثقة بين الجانبين.
- إجراءات بناء الثقة: في اجتماع عقد في جنيف بين قادة الجانبين ورعاية الأمم المتحدة، تم الاتفاق على عدد من إجراءات بناء الثقة، مثل فتح معابر جديدة بين شطري الجزيرة، والمشاريع المشتركة في المنطقة العازلة (مثل حديقة الطاقة الشمسية)، ونزع الألغام، وترميم المقابر على جانبي الانقسام. هذه الخطوات، وإن كانت صغيرة، تُنظر إليها كإشارة إيجابية نحو إيجاد "جو جديد" للمحادثات.
- الدعم الأوروبي والدولي: يواصل الاتحاد الأوروبي التعبير عن دعمه لحل القضية القبرصية على أساس فيدرالي، ويقدم تمويلًا لمشاريع تهدف إلى تقريب المجتمعين القبرصيين. كما تواصل الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى دعم جهود الأمم المتحدة.
آفاق الحل: تفاؤل حذر أم واقعية قاسية؟
رغم هذه الجهود، لا يزال الطريق نحو حل شامل طويلًا ومليئًا بالعقبات. إن الإصرار التركي والقبرصي التركي على حل الدولتين، ورفض القبارصة اليونانيين لهذا الطرح الذي يرون فيه إضفاءً للشرعية على التقسيم، يمثلان عقبة كبرى. كما أن وجود القوات التركية على الجزيرة وحقوق التدخل التي تتمسك بها تركيا، لا تزال نقاطًا خلافية جوهرية.
إن "الجو الجديد" الذي تحدث عنه الأمين العام للأمم المتحدة قد يكون بداية لتقريب وجهات النظر، لكنه لا يعني بالضرورة قرب التوصل إلى "حل تاريخي". فالحل يتطلب تنازلات حقيقية من كلا الجانبين، واستعدادًا للتغلب على سنوات طويلة من عدم الثقة والجمود. وفي ظل المشهد الجيوسياسي المتغير في شرق المتوسط، تظل القضية القبرصية اختبارًا لقدرة المجتمع الدولي على حل النزاعات المستعصية، وضمان مستقبل مستقر ومزدهر لجميع سكان الجزيرة.
تعليقات
إرسال تعليق