محمد كبسور : الجزار .. رحيل الفنان و صمود التجربة

محمد كبسور : الجزار .. رحيل الفنان و صمود التجربة
محمد كبسور : الجزار .. رحيل الفنان و صمود التجربة


رحم الله الفنان السوداني المبدع محمد فيصل الجزار، الذي رحل عنا في ريعان شبابه تاركًا بصمة فنية مميزة ستظل خالدة في تاريخ الأغنية السودانية. لقد استطاع الجزار، بفضل صوته العذب وموسيقاه المتفردة، أن يحدث نقلة نوعية في المشهد الفني السوداني، وأن يكسر قيود النمط التقليدي الذي كان سائدًا.

تميز الجزار بقدرته الفائقة على المزج بين النكهة الشرقية واللمسات الغربية في موسيقاه، وهو ما جعله يخاطب قلوب جيل الشباب بشكل خاص. لقد كان فنانًا شغوفًا ومبدعًا، حريصًا على تقديم أعمال فنية ذات جودة عالية، وهو ما أكسبه شعبية واسعة واحترامًا كبيرًا في الأوساط الفنية والجماهيرية.

لقد كان للجزار وعي بأهمية الوسائط الحديثة وثورة الإنترنت، واستغلها بذكاء في نشر أغنياته وتجاوز القيود التي كانت تفرضها المنابر الرسمية، ليصل بصوته إلى جمهور أوسع دون الحاجة للخضوع لذائقة "الحرس القديم".

من اللافت في مسيرة الجزار الفنية استقلاليته وتميزه عن الفنانين الذين سبقوه في الظهور، مثل محمود عبد العزيز وجمال فرفور، واللذين كان لهما تأثير كبير على جيل الفنانين الصاعد في تلك الفترة. ولا شك أن دراسته الأكاديمية للتوزيع الموسيقي وهندسة الصوت في مصر كان لها دور كبير في صقل موهبته ومنحه هذا البعد العلمي والجمالي الإضافي الذي ميز أعماله وجعلها أكثر عمقًا وتأثيرًا. كما أن اهتمامه بالتفاصيل الموسيقية الدقيقة كالهارموني والزخارف الصوتية أضفى على تجربته ثراءً وتميزًا.

يُحسب للجزار أنه كان من أوائل الفنانين السودانيين الذين وظفوا التكنولوجيا الحديثة في إنتاج الموسيقى، وهو ما ساهم في تطوير البنية الفنية لأعماله وتقديمها في قوالب عصرية جاذبة.

وعلى الرغم من الاتهامات التي لاحقته من بعض المنافسين حول حقيقة صوته في التسجيلات، إلا أنه كان دائمًا ما ينفيها عمليًا من خلال حفلاته الحية التي كانت تشهد على موهبته وقدراته الصوتية.

يُعتبر الجزار امتدادًا لجيل من الفنانين السودانيين الرواد الذين سعوا إلى الربط بين الموسيقى السودانية الخماسية والموسيقى العربية ذات السلم السباعي، مثل ربشة ومحمد الأمين والهادي الجبل وشرحبيل أحمد وغيرهم. وقد شجعت تجربته العديد من الفنانين الشباب، خاصة الذين يعزفون على آلة الجيتار، على تبني هذا النهج في تعريب الأغنية السودانية. ويُعد الفنان محمد عثمان، الذي ارتبط بثنائية غنائية مميزة مع الجزار ضمن فرقة "السودانيين"، من أبرز الفنانين الذين تأثروا بأسلوبه.

لقد تربّع الجزار على عرش الأغنية السودانية في مطلع الألفية، وإن شهد حضوره الغنائي تراجعًا نسبيًا في السنوات الأخيرة لصالح فنانين آخرين، إلا أنه ظل حاضرًا بقوة كملحن وموزع موسيقي بارع يتمتع بأسلوب فريد وموسيقى مميزة. كما استمر تأثيره من خلال الأغنيات التي لحنها لفنانين آخرين ومساهماته المميزة في الإعلانات التجارية لكبرى الشركات السودانية، خاصة في قطاع الاتصالات، وهو ما عزز من شعبيته وأبقاه حاضرًا في الذاكرة الجماعية.

ربما لم يركز الجزار بشكل كبير على الكلمات في أغانيه، لكن المؤكد أنه أولى اهتمامًا بالغًا للتأليف والتوزيع الموسيقيين، وهو ما تجلى بوضوح في تناوله لأغانٍ قديمة ومدائح نبوية سعى إلى تجديد موسيقاها، وكذلك في أغانيه الخاصة التي اعتمدت في نجاحها على اللحن والأداء والتوزيع المتقن.

لقد كانت مسيرة الفنان الراحل محمد فيصل الجزار قصيرة، لكنها كانت حافلة بالإبداع والتجديد. سيذكره التاريخ كأحد الفنانين الذين تركوا بصمة واضحة في تطور الأغنية السودانية، وستبقى أعماله شاهدة على موهبته الفريدة وروحه الفنية المتمردة.

تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.


 

تعليقات