المتّة.. رفيقة السوريين في الغربة وذاكرة الثورة في أكواب مشتركة

المتّة.. رفيقة السوريين في الغربة وذاكرة الثورة في أكواب مشتركة
المتّة.. رفيقة السوريين في الغربة وذاكرة الثورة في أكواب مشتركة


 فتحت الثورة السورية منذ يومها الأول جميع الأبواب الموصدة أمام تعارف أبنائها، فاجتمع شباب وشابات من مناطق مختلفة في البلاد على موقف أخلاقي، وتبادلوا أحاديث صادقة وممنوعة حول طوائفهم وعاداتهم ومدنهم، التي حاصرها النظام السابق بحزام من الخوف والجهل تجاه الآخر.

وخلال تلك السنوات، ومع كمّ الصداقات التي اكتسبتها، تعرّفت إلى "المتّة"، وأظنّه حدثاً يجب أن يُوثّق، إذ إننا في مدينتي لا نشرب المتّة ولا نحبّها، وتقتصر مشروباتنا على القهوة بشكل رئيسي، إضافة إلى الشاي، في حين كانت المتّة مشروباً يخصّ الجيران من الساحل حصراً، الذين كانوا يستغربون بدورهم من جهلنا بهذا المشروب واعتمادنا على مشروبات أخرى لا تعنيهم، فـ "شريّبة" المتّة لا يغيّرون مشروبهم إلا نادراً، إذ إنها صالحة للشرب منذ الصباح وحتى ساعات الليل المتأخرة، وفي كل المناسبات.

في إسطنبول، تعرّفت إلى صديقة عزيزة من السويداء، وبعد أسابيع فقط، شاركتها شرب المتّة من باب التجربة. كنت أشربها حباً بها، لا حباً بالمتّة نفسها، كما أحببت طقوس شرب المتّة معها، ففي الصباح تضيف بعض الحليب، فيكون المشروب دافئاً وحنوناً على المعدة والقلب، وفي المساء تضع بعض حبّات الهيل. وكثيراً ما كنا نتحدث لساعات طويلة عن الثورة والسياسة وعلم النفس والحب ومئات القصص، ومع ذلك تبقى المتّة حاضرة، لا تحتاج أكثر من "تسخين الإبريق" لدقائق كي لا يغلي و"تمصل"، فنضطر إلى قطع الحديث لتجديدها.

وبعد سفر بيسان إلى كندا، انقطعت عن المتّة بشكل كلي، وعدت إلى أكواب القهوة السوداء، وما تعنيه من ذكريات وكافيين، لكن بعد سنتين أو أكثر قليلاً، تعرّفت إلى متّة السلمية مع صديقتي غزل. بُحت لها لأول مرة بأنني أفقد توازني عندما أشرب المتّة، لا أدري ما السبب، ولكنني بعد أول "كاسة" أو الثانية، أشعر بالدوار وأحتاج إلى الاستلقاء. طبعاً، لم تمرّ هذه الحالة من دون تهكم وسخرية، إذ قيل لي إنني "أسكر" بالمتّة، وهذا شيء يتمناه كثيرون.

مع غزل أيضاً، تحدثنا طويلاً عن كل شيء، وبكينا وضحكنا، وفي الخلفية دائماً إبريق المتّة "المتطوّر"، الذي نبقيه فوق شمعة صغيرة تمنحه سخونةً جيدة، لنكمل أحاديثنا بلا انقطاع، أحاديث عن الثورة والسياسة والرجال وصدمات الطفولة على وجه الخصوص.

تعلّقت بالمتّة ومعانيها، وبصدق شاربيها، وبالألفة التي تصنعها، خاصة عندما تتشارك وأحداً كأساً واحدة، إذ يصبح الأمر وكأنكما عائلة واحدة. وهذا ما أشعر به تجاه صديقات المتّة، وهو ما استطعت إثباته عندما وصلت إلى فرنسا، وبالتحديد عندما تعرّفت إلى يارا من "دير ماما"، وكانت المتّة حاضرة لنتحدث مجدداً عن اللجوء والاغتراب والشوق والثورة والرجال.

في كل مرة أشعر فيها بأن الغربة أقسى من أن أتحملها، أجد يارا حاضرة بـ "إبريق متّة"، لنكسر به أي حاجز أو قلق أو مخاوف من أن نكون عائلة في غربتنا.

لا أدري ما السرّ، إلا أن هذا المشروب الأخضر ساحرٌ في بعض الأحيان، مهدّئٌ للقلق، لطيفٌ في يوم صيفيّ حار، ودافئٌ في يوم شتويّ، يمنح طاقة حين نحتاجها، وسكينة عند الطلب، وبالتأكيد رفيقٌ جيد للتركيز في العمل والكتابة على وجه الخصوص.

واليوم، في يوم الحب، أحاول أن أُعيد للمتّة بعضاً من الحب الذي خسرته بارتباطها بالضباط وعناصر الأمن والتعذيب وغرف التحقيق، فالمتّة، التي تعدّ الأكثر انتشاراً في سوريا بين بلاد الشام أجمع، تلمّ شمل محبيها اليوم من جميع المناطق والانتماءات والطوائف لبناء سوريا معاً.

وبالطبع، لا يقتصر الأمر على رومانسية امتزاج الماء بالأوراق الخضراء والرغوة المريحة التي تظهر على وجهها، إذ تحتوي المتّة على نسبة من الكافيين تتراوح بين 0.3% و1.7% من وزنها الجاف، إلى جانب مركبات مثل الثيوفيللين والثيوبرومين، ومعادن كالبوتاسيوم والمغنيزيوم، بالإضافة إلى فيتامينات وأحماض أمينية ومضادات أكسدة.

وتساعد المتّة في تنشيط القلب والعضلات والأعصاب، كما تخفف الصداع وتعزز القدرة على التحمل لدى العمال والرياضيين، إلى جانب تحسين الهضم وتقليل الشهية، مما يسهم في إنقاص الوزن. وتعدّ مدرّة طبيعية للبول، ما يجعلها مفيدة في التخلص من الرمال البولية وتخفيف آلام الحوض والانتفاخ في أثناء الحيض، إضافة إلى دورها في علاج الرشح والإنفلونزا بفضل احتوائها على فيتامين C.

كما تفيد المتّة البشرة من خلال تقليل السيلوليت وعلامات تمدد الجلد في أثناء الحمل، فضلاً عن تحسين مظهرها ومنحها لمعاناً، وتعزيز صحة الشعر والحدّ من تساقطه وإعادة لونه الطبيعي.


تعليقات